المفكر و الفيلسوف ابن رشد صنف كرائد للاتجاه العقلي
الظاهرة "الإنشتاينية" و الظاهرة "الرُّشدية" في الميزان
(قراءة في مقال تحليلي للدكتور ميلود خلف الله من جامعة بسكرة)
لاشك أن أكبر موهبة أعطاها الله للبشر هي "العقل" كأداة للتفكير و به ميزه عن الحيوان، لكن يظل تفكير الإنسان تفكيرا نسبيا، و لا يمكنه في كل الأحوال ان يحل القضايا الذهنية كلها و يعجز عن تحليلها أحيانا مهما بلغ درجة معينة من العلم، لاسيما المسائل التي تدخل في إطار ما وراء الطبيعة، مثل معرفة الزمان، المكان، الروح، المادة، و لعل هذه المسائل ما تزال مطروحة على طاولة النقاش عند المختصين، مثلما أشار إلى ذلك الدكتور ميلود خلف الله من جامعة محمد خيضر بسكرة ( الجزائر) في مقال له بعنوان " نظرات جديدة في قضايا قديمة" نشر مؤخرا في يومية "صوت الأحرار" الجزائرية، عدد 5409 ليوم الاثنين 09 نوفمبر 2015 صفحة رقم 10 ، ركز فيه على فلسفة إنشتاين أو كما يسمى بـالنظرية "الإنشتاينية"، و قال أن العقل البشري عاجز عن إدراك حقائق الكون الكبرى، لأنه يعيش في عالم ضيق تختلف مفاهيمه عن العالم الآخر، و هذا العجز راجع إلى أن العقل البشري نسبي و محدود في تفكيره، و هذا لا يدعوا إلى الشك، لأنه إذا كان العقل البشري العادي لا يعرف شيئا عن "الخلية" cellule، و ممّا تتكون و كيف تنقسم أو تتجزأ، و طالما حياة الإنسان تبدأ من "الخلية" ، كيف لهذا العقل البشري أن يعرف من أين يبدأ الفضاء الذي تحدث عنه صاحب المقال و أين ينتهي؟ و ما هو الفضاء إن صح القول؟ هل هو تلك المساحة التي تفصل بين السماء و الأرض، أم أن له مفهوما آخر، خاصة في عصرنا هذا، أين بدأ الحديث عن الفضاء الحقيقي و الفضاء الافتراضي، ناهيك عن المسائل «الغيبية" الأخرى مثل ماهية الرّوح، و كيف تخرج من الجسد؟..
فمهما توصل الإنسان إلى بناء أفكار جديدة و حلل الظواهر بواسطة "العقل" في الأشياء التي تحيط به مثل حركة الشّلال و تدفق الماء، أو حركة الحشرة و رؤيتها للأشياء، حركة الرّياح، و قدرة الطيور على الطيران و كيف تعرف طريقها في الفضاء، و كل المسائل التي تدفع الإنسان إلى التساؤل عن سرّ وجود الكون، و هل هذه الحركات، هل هي إرادية؟ أم أن هناك قوة خارقة تحركها و تدفعها إلى القيام بتلك الحركات؟ ، و في كل الأحوال طبعا لا يعقل أن ننتقص من العقل البشري، و قدرته على التفكير و الاختراع، فقد توصل الإنسان بالعلم إلى معرفة الكثير من الحقائق التي تدخل ضمن "الإعجاز العلمي"، مثل نشوء الجنين في بطن أمّه منذ عملية التبويض و تزويده بالحواس ، و ما على العالم أو الفيلسوف إلا تبسيط الأمور ، باستعمال الأسلوب "الإقناعي" في تفكيك هذه الألغاز، أو استشراف ما هو آت و أن يحول المجهول إلى ملموس و يجعله في متناول العقل البشري "المُفَكِّرِ" لا "العادي"، لأن البحث في المسائل الغيبية قد تخرج هذا الأخير ( أي الإنسان العادي) عن المـألوف و قد تقوده إلى الكفر أو إلى الجنون أحيانا، عكس "المفكر" الذي يجعل من التعقل و التأمل و التدبر مادة يعتمد عليها في تحليل الظواهر، و قد أوضح الدكتور ميلود خلف الله في مقاله محدودية العقل البشري "غير المفكر"، عندما سأل شخص عن ماهية "الزمان"، و كان رده أن الزمان " زفت"، و الحديث طبعا عن " الماهية" خاض فيه الكثير دون الوصول إلى نقطة يتفقون عندها، فالإشكالية هنا لا تقف عن الطائرة التي ذكرها صاحب المقال كمثال و سيرها في خط مستقيم أو منحني، و إنما في بقائها عالقة بين السماء و الأرض لا أسلاك تثبتها و تحميها من السقوط، و يجر الحديث عن ارتفاع السماء بلا عمد ( و إذا السّماء رفعت: سورة التكوير) ، و هذه مسائل تؤكد على عجز العقل البشري و محدودية تفكيره، و أن تفكيره سطحي كما قال صاحب المقال.
لقد عاش العلماء في حيرة و هم يبحثون في "الذرة " و في التطور التقني الذي بلغته البشرية، و قد أدخلهم الفشل رفي حالة من القلق و الاضطراب و الإحباط، و قد ضرب الدكتور ميلود خلف الله مثالا بـ: "إنشتاين" مركزا على بحثه لنظرية الزمان و المكان المنحنيان بفعل "الجاذبية" ( حسب النظرية الإنشتاينية ) ، بحيث جعل إنشتاين الزمان البعد الرابع للمكان، و أنه لا يوجد زمان و مكان معًا، بل "زمان ، مكان"، و قد أثبتت التجربة أنه لا وجود لزمان بلا زمان، و لا لزمان بلا مكان ، و الجدير بالإشارة هنا أن فصل الزمان عن المكان عند إنشتاين ، لأنه يميل أكثر إلى "اللاهوتية"، بحيث أظهر يهوديته عندما انضم إلى السرب الصهيوني و دعا إلى إحياء العبري الجديد الذي لم و لن تكتمل ولادته إلا على أرضه و في وطنه و يحقق وجود السياسي، بدليل أنه اختزل صراع شعبين ( الصهاينة و الفلسطينيين ) على وطن واحد إلى مسالة سوء فهم، و هذا الموقف العدائي يؤكد أن إنشتاين كان يمكر بعقله، ما يمكن الإشارة إليه أن الدكتور ميلود خلف الله في مقاله ركز على جانب واحد في تحليله لما يسمى بـ: " العقلانية"، حيث ركز على النظرية الإنشتاينية، و لم يأت بما جاء في الكتب السماوية ( الإنجيل و القرآن) التي تحدثت عن ماهية "الزمان" و يا حبذا لو ركز تكلم الدكتور ميلود خلف الله عن النظرية "الرشدية" أو العقلانية الرشدية إن صح القول، و هذا من باب المقارنة ليس إلا.
و لقد خاض ابن رشد في هذه المسائل، و كانت له آراء و مواقف عديدة عن العقل و العقلانية و "الفعل العقلاني"، و قال: هل هو العقل نفسه؟ أم أن التجربة الموضوعية أي الواقع الخارجي هو المصدر الأول للفعل العقلاني؟ و استنتج أن في العقل ذاته قدرات تؤهله للفعل العقلاني، و قد راح بعض الفلاسفة و العلماء بالقول أن الفعل العقلاني هو التدبر و التأمل في المسائل المستعصية، أو كما سمّاه الشعراوي رحمه الله بـ: " التعقل"، و هذا المفهوم يأتي بالممارسة العقلانية المتجددة بتجدد الحياة، فقد يكون استنتاج الإنسان خاطئا حول مسالة ما، و قد أخذت الظاهرة الرشدية حيزا واسعا من الدراسة عند الكثير من الباحثين من بينهم الدكتور مراد وهبة، و الدكتور محمود فهمي زيدان، و غيرهم و قد أسهب هؤلاء في المقارنة بين العقل و النفس عند ان رشد كمفكر عربي و رائد للاتجاه العقلي، و الثنائية بين الجسم و النفس، و ما جاء في كتابه " تهافت التهافت" و " فصل المقال"، و خاض آخرون في نقد ما جاء به ابن رشد حول "الحقيقة الدينية و الحقيقة الفلسفية" لدى ابن رشد، فابن رشد يرى أن الإسلام لا يقيم خصومة بين الدين و العقل، و هذا يناقض موقف إنشتاين اليهودي من العقل و الدين، لاسيما و أن البعض يقول ان آراء إنشتاين الفلسفية و ليست العلمية وراء ما يحدث من تطرف في العالم عندما آزر يهوديته، و نقرأ للدكتورة زينب محمود الخضيري في دراستها حول مشروع ابن رشد الإسلامي و الغرب المسيحي" و قالت أن العلاقة بين الفلسفة و الشريعة (أي الفكر الديني)، عند ابن رشد لها دلالة سياسية وبعدا تاريخيا، و هو ما ذهب اليه إنشتاين عندما دعا إلى إحياء "العبري" الجديد من أجل تحقيق وجوده السياسي، و كلاهما لم يفصل بين السلطة الدينية و السلطة السياسية.
قراءة و تعليق علجية عيش